كيف ساهمت الاستخبارات الأمريكية في تعثر أفريقيا بعد الاستعمار؟

كيف ساهمت الاستخبارات الأمريكية في تعثر أفريقيا بعد الاستعمار؟

كيف ساهمت الاستخبارات الأمريكية في تعثر أفريقيا بعد الاستعمار؟

اليكس بارك

نشرت مجلة "جاكوبين" الأمريكية ملخصا عن كتاب يستعرض الدور الذي أدَّته «وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)» في أفريقيا بعد استقلالها وانتهاء الاستعمار. وخلُص التقرير الذي أعدَّه أليكس بارك، باحث مهتم بشؤون التجارة العالمية في أفريقيا، إلى أنه بداية من تقويض قادة التحرير الوطني، وصولًا إلى القيام بدور محوري في اغتيال باتريس لومومبا، رئيس الوزراء الكونغولي الراديكالي، لم يحظَ دور وكالة الاستخبارات المركزية المخزي في أفريقيا باهتمامٍ كافٍ.

أفريقيا بعد الاستعمار

يشير الكاتب في بداية التقرير إلى أنه في عام 1958 وبعد مرور عام على نيْل الاستقلال من الحكم الاستعماري، استضافت غانا مؤتمرًا للزعماء الأفارقة، وهو أول لقاء من نوعه على الإطلاق في القارة الأفريقية. وبناءً على دعوة من كوامي نكروما، رئيس الوزراء الغاني المُنتخَب حديثًا آنذاك، حضر المؤتمر أكثر من 300 زعيم من 28 منطقة في جميع أنحاء أفريقيا، بما في ذلك باتريس لومومبا، رئيس وزراء الكونغو التي كانت تخضع للاستعمار البلجيكي والطبيب البارز فرانتز فانون، الذي كان يعيش آنذاك في الجزائر التي كانت تخضع للاستعمار الفرنسي. وكانت تلك الحقبة تتَّسِم بإمكانات غير محدودة لدى مجموعة من الزعماء الذين عقدوا العزم على رسم مسار جديد لأوطانهم.

وفي الحقيقة كان العملاء الذين حذَّر منهم نكروما موجودين بالفعل في المؤتمر. وبعد مرور وقتٍ قصير من بدء المؤتمر، ألقت الشرطة الغانية القبض على صحافي كان يختبئ في إحدى غرف الاجتماعات ليحاول على ما يبدو تسجيل جلسة فرعية مُغلقة. وبعد اكتشاف أمره لاحقًا، تبيَّن أن الصحافي كان يعمل في الواقع لصالح منظمة صورية تتْبَع وكالة الاستخبارات المركزية، وهي واحدة من بين عِدَّة منظمات مُثِّلَت في المؤتمر.

وربما يكون الكتاب الذي ألَّفته سوزان ونتج عن هذا الجُهد تحت عنوان «الحِقد الأبيض: وكالة الاستخبارات المركزية وإعادة الاستعمار السِري لأفريقيا» أكثر التحقيقات شمولًا حتى الآن عن تورُّط وكالة الاستخبارات المركزية في أفريقيا في أواخر خمسينيات وأوائل ستينات القرن الماضي.

وفي كتابها الذي جاء في أكثر من 500 صفحة، تتصدى سوزان للأكاذيب وعمليات الخداع وادعاءات براءة وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من الوكالات الأمريكية لتكشف أن الحكومة الأمريكية لم تدع فشلها في فهم دوافع القادة الأفارقة يمنعها من التدخُّل، بصورة عنيفة في كثير من الأحيان، من أجل تقويضهم أو إطاحتهم.

وعلى الرغم من أن عددًا قليلًا من البلدان الأفريقية الأخرى بدا أنه اكتفى بمراقبة الأوضاع، فإن اهتمام كتاب «الحقد الأبيض» ينصبُّ على بلدين فقط من البلدان التي شغلت اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية خلال هذه المدة: وهما غانا والكونغو.

اغتيال لومومبا

ويؤكد التقرير أن نكروما تمتَّع بفهم حادٍّ للتهديد الذي تواجهه بلاده والأشخاص الذين يقفون وراء هذا التهديد. وبعد مرور أشهر فقط على الخطاب الذي ألقاه في المؤتمر، اغتيل لومومبا، رئيس الوزراء الكونغولي، على أيدي فرقة إعدام بلجيكية وكونغولية؛ ما فتح المجال أمام عقود من الاستبداد الموالي للغرب في البلاد.

ويُذكَر اغتيال لومومبا بوصفه إحدى النقاط الوضيعة في السنوات الأولى للاستقلال الأفريقي، بيد أنَّ الافتقار إلى السجل الوثائقي مكَّن المُحقِّقين الحزبيين من تقليص الدور الذي أدَّته وكالة الاستخبارات المركزية. وسمح الإخفاق في المساءلة بتبرئة الوكالة مع تعزيز النظرة القدَرية للتاريخ الأفريقي، كما لو كان مقتل مسؤول مُنتخَب مجرد أمر مريع آخر «عانى منه» شعب غير مستعد بتاتًا للتحدي الذي يُمثِّله الاستقلال.

كانت وكالة الاستخبارات المركزية في الواقع أحد أهم مخطِّطي هذه المؤامرة، وآية ذلك أنه بعد مرور أيام فقط على زيارة لومومبا لغانا، حذَّر لاري ديفلين، رجُل الوكالة البارز في الكونغو، رؤساءه من مؤامرة انقلاب غامض يتورط فيه السوفييت، والغانيون، والغينيون، والحزب الشيوعي المحلي.

وفي نهاية المطاف، لم يُكلِّف عملاء وكالة الاستخبارات المركزية فريق الإعدام بقتل لومومبا. ولكن كما أوضحت سوزان، يُعد ذلك التباين طفيفًا عندما يأخذ المرء في حسبانه كل الإجراءات الأخرى التي اتخذتها الوكالة للمساعدة في مقتل لومومبا.

وبعد اختلاق مُخطَّط التآمر الزائف لبسط السيطرة الموالية للاتحاد السوفيتي ونشره، استفادت وكالة الاستخبارات المركزية من مصادرها المتعددة في مدينة كاتانجا من أجل توفير معلومات استخبارية لأعداء لومومبا؛ ما يجعل القبض عليه مُمكنًا.

تقويض شعبية نكروما

ويبدو أن الحكومة الأمريكية لم تسلك درب تنفيذ الاغتيالات المباشرة. ولكنَّها اتخذت إجراءات أخرى تهدف إلى تقويض الزعيم الغاني، وغالبًا ما تُبرِّر مُخطَّطاتها من خلال أنواع التبريرات الأبوية ذاتها التي استخدمها البريطانيون قبلهم. ووصلت تلك الجهود إلى أدنى مستوياتها عام 1964، عندما أرسل المتخصصون في شؤون غرب أفريقيا الذين يعملون لدى وزارة الخارجية الأمريكية مذكرة إلى مينين ويليامز، رئيس الشؤون الأفريقية في الوزارة، بعنوان «برنامج العمل المُقترح بشأن غانا".

وأوضحت المذكرة أن الولايات المتحدة ينبغي أن تبدأ في بذل «جهود حثيثة» تتضمَّن "شنَّ حرب نفسية وغيرها من الوسائل التي تهدف إلى تقليل الدعم الذي يحظى به نكروما داخل غانا وتعزيز الاقتناع في أوساط الشعب الغاني بأن رفاهية بلادهم واستقلاله يستلزمان الإطاحة به".

ووفقًا للتقرير، لا يدع كتاب «الحقد الأبيض» مجالًا للشك في أن وكالة الاستخبارات المركزية قد تسبَّبت في إلحاق ضرر جسيم لأفريقيا في الأيام الأولى من استقلالها. ولكن مع أن سوزان تقدم عِدَّة أمثلة على الإجراءات التي اتخذتها وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من الوكالات بهدف تقويض الحكومات الأفريقية، وغالبًا ما تتضمَّن هذه الإجراءات أعمال عنيفة، إلا أن الإستراتيجية الأوسع التي وضعتها وكالة الاستخبارات المركزية بشأن أفريقيا، بغض النظر عن حرمان حلفاء الاتحاد السوفيتي من اليورانيوم، تظل غامضة.

وقد تآمرت وكالة الاستخبارات المركزية مع رجال الأعمال الذين هَبُّوا للاستفادة من الحكومات الموالية لغرب أفريقيا في الكونغو وغانا على حدٍّ سواء. ولكن بعيدًا عن ممارسة انتزاع الاعترافات المُمَنهجة أثناء التحقيقات، غالبًا ما تبدو مُخطَّطات الوكالة الخاصة بأفريقيا غامرة بالتناقضات.

ووفقًا لكتاب «الحقد الأبيض»، تظهر قدرة وكالة الاستخبارات المركزية على ارتكاب جرائم القتل وإثارة الفتن بصورة كاملة. غير أن قدرتها على ممارسة الحكم تبدو أقل من ذلك.