قراءة نقدية لقصيدة الشاعر المتوكل طه التي عارض فيها قصيدة "العنقاء" للشاعر عمر الشبلي

قراءة نقدية لقصيدة الشاعر المتوكل طه التي عارض فيها قصيدة "العنقاء" للشاعر عمر الشبلي

مقدَّمة من الناقد الأكاديمي د. مفيد عرقوب

ما أن تصفحت صفحة صديقي الدكتور الشاعر والأديب المتوكل طه حتى وقع نظري على قصيدته "عنقاء أخرى عن المتنبي" التي قوامها خمسة وخمسون بيتا عارض فيها قصيدة الشاعرَ عمر الشبلي "العنقاء" التي خاطب فيها المتنبي، وذلك في حفل تكريمه في لبنان.

قصيدة فارهة المعاني، باسقة المباني، تَنْضَح بالنَّواسغ من أطايب الكَلِم، وتزدهي بروائع الصور، وارفة الظلالات، سخية الدلالات، غنية الإيحاءات،استفزت دواخلي؛ فالنص الفريد يستقطب أقلام النقاد.

فما أن قرأت القصيدة حتى وجدت نفسي مدعوًّا إلى طبق شعري ثري شهي يشهق بالمجاز، والانزياحات الحيوية المباغتة، ويتشردق بالاستعارات المبهرة، والكنايات المائجة، والمرموزات الموحية، والمقابلات البديعة، وغيرها من جماليات البلاغة والبديع، وأخالني لا أبالغ إن قلت: إن البلاغة في هذه القصيدة قد لبست أزهى ثيابها، وارتدت أنفس مصاغها، وأقامت بستانا سخيا خصبا يهزأ باليباب. تلك والله من نواميس القصائد العاليات وطبائعها وديدنها. ولا شك أن هذه الحلى البلاغية وهذه الانزياحات قد تمخض عنها لطائف المشاعر، وطرائف الأوصاف، ودقائق التصاوير، وفطائر المعاني الفتية، وذخائر المباني البهية.

والشاعر المتوكل امتشق في هذه القصيدة حرفه الثرّ المسلاس المتمرد بحثا عن الكرامة والعزة والأنفة، والتمسك بكل ما هو طاهر ونقي ونبيل، فتراه يقرص أوراق قصيدة ابن الشبلي الناعمة بإبر نحل النقد، ويوجه انتقاداته اللاذعة للمتنبي في الوقت ذاته .

وإذا توقفنا عند عتبة القصيدة (عنقاء أخرى عن المتنبي) فإنه يقودنا إلى وجود عنوانين يحملان الاسم ذاته، وهما: قصيدة (العنقاء) للشاعر عمر الشلبي الموجهة للشاعر المتنبي، وقصيدة (عنقاء أخرى) للشاعر المتوكل طه معارضا فيها القصيدة الأولى.

والعنوانان إنما يشيران إلى كل ما هو عصي على الإمساك، فالعنقاء طائر أسطوري جميل طويل العنق، ويطلق أيضاً على الإنسان الذي يرفض الاستسلام، ويطلق على الطير العصي على الإمساك. وأصلها اللغوي: هو الشيء المرتفع ؛ فنقول عنقاء الجبل؛ أي قمته، وتلة عنقاء؛ مرتفعة طويلة.

ويحمل هذا العنوان تناصا وتعالقا مع بيت الشاعر المعري:

أرى العنقاء تكبر أن تصادا      فعاند من تطيق له عنادا

لكن الشاعر أورد اسم العنقاء ليدل علو منزلة القصيدة ورفعة معانيها بديل ما جاء في مطلع قصيدته:

وقفت بباب عنقاء المعاني       عروبي الملامح والبيان

فهي إذن تلك المعاني الرفيعة التي لا يمتلكها أي شاعر؛ فهي تشبه طير العنقاء الذي يستحيل الإمساك به أو اصطياده .

ولعل هذا الأسلوب المجازي الأنيق، والاستعاري الرشيق، هو ما جَمَّلَ مفتتح قصيدته وأكسب معانيها جلالا وبهاء، جاعلا من غير المحسوس محسوسا ، إذ ليس للمعاني باب على وجه الحقيقة ، لكنه حين جاس فكره وخياله أرض الاستعارة جعله ملموسا، وفي جعله لعنقاء المعاني باباً، إنما أراد به صعوبة الدخول والوصول إلى باب عنقاء المعاني، إذ العنقاء عصية على الإمساك ، وفي إضافة المعاني إلى العنقاء، فإنما أراد من ذلك المبالغة في مديح الشاعر محمد شبلي، فالكلام موجه إلى الشاعر الشبلي في قوله (وقفتَ)؛ إذ ليس بمقدور أي شاعر الوقوف بباب عنقاء المعاني.

وإذا واصلنا قراءة أبيات القصيدة فإننا نجد المجاز يسري في أنساغ كثيرمن أبياتها  كما يسري الماء في النبع سلاسة وعذوبة.

ويمكن تلخيص الفنون البلاغية التي جَمَّلت القصيدة وزادتها حلاوة وطلاوة:

أولا: الاستعارات والتشبيهات:

في الاستعارة يتم وهب الجماد عواطف آدمية وخلجات إنسانية، وبذلك فقد تتحول الأشياء الخرس إلى أحياء ناطقين يحسون وينبضون. ولهذا اعتبرها أرسطو من أعظم أساليب البلاغة، بل عدها جون كوهين المنبع الأساسي لكل شعر، وعدها  ابن رشيق أفضل المجاز، وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها ونزلت منزلتها.

ويأتي الأسلوب الاستعاري لتمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير شيئا مرئيا، وهو بذلك ينقل المشاهد من السماع إلى المشاهدة والعيان، وهذا بالطبع أقوى في التعبير وأبلغ في البيان.

ومن الأمثلة على الاستعارة في قصيدة الشاعر المتوكل قوله:

أضاع جمانه المصقول وهما     فمات البرق في سحب الجبان

فبأسلوب استعاري رشيق خلع الحياة على البرق وحوله إلى كائن حي يموت ويحيا، ثم أضاف (الجَبان) إلى السحب جاعلا للجبان سحبا في استعارة أخرى؛ إذ ليس للجبان سحب على وجه الحقيقة، إنما صيَّره ذلك حين جاس به أرض الاستعارة والمجاز.

ولعل هذه السحب لا برق فيها ولا نفع منها، ولا بريق لها، ولا خير فيها، ولا فائدة ترجى منها؛ لأنها سحب الجبان المجازية، التي ليست كالسحب التي فيها بركات السماء وخيراتها.

ومن استعاراته اللطيفة أيضا قوله:

ولو رمت العروس حياء ثوب      وشرعت الثمار لكل جان

إذ أنسن الحياء فشبهه بإنسان يلبس ثوبا، حاذفا المشبه به الذي هو الإنسان، مبقيا على شيء من متعلقاته وهو الثوب على سبيل الاستعارة المكنية. ولا يفوتنا ما في هذا البيت والبيت الذي يليه من حكمة رائعة تونق الأسماع.

ومن التشبيهات تشبيه كلام ابن شبلي بالسبع المثاني، وتشبيه الشعر الجيد بالوحي. وتشبيهه شهيق الأشعار بأنصال اليماني، وهنا يتداخل التشبيه مع الاستعارة؛ لأن الأشعار لا تشهق في الحقيقة، وإنما جعلها كذلك في تشبيهها بكائن حي يشهق، وهو بذلك ألقى الحياة على الأشعار غير المحسوسة.

ويا لجمال الاستعارة والتشبيه والمبالغة البديعة في قوله:

فبئس الشعر إن لم يأت فجرا         ويشعل ألف شمس في البنان

فالشعر غير المحسوس أصبح شيئا قابلا للاشتعال بما يحمله من طاقة وقدرة هائلة في إشعال ألف شمس في البنان.

ثانيا :الجناس :

والجناس فن بديعي من ألطف مجاري الكلام، فهو كالغرة في الفرس، قال عنه الأندلسي: الجناس أشرف الأنواع اللفظية، وقال عنه الصفدي: له في كل خلوة جلوة، وفي كل خطوة حظوة، إن دخل في خطبة توَّجَها، أو قصيدة دَبَّجَها.

ومن أمثلة الجناس قوله :

أتعلم يا ابن شبلي أن هذا        وإن ملأ الجَنان من الجِنان

فجانس جناسا تاما بين الجَنان الذي هو القلب والجِنان التي هي جمع جَنّة، وتجمع على جنات وعلى جنان، وفي قوله: يا ابن شبلي، نسبة للشاعر محمد شبلي صاحب القصيدة التي عارضها الشاعر.

ثالثًا :الطباق والمقابلات البديعية

ومن أمثلتها في قوله:

طيور الله تعرف كيف تغدو            وتعرف قمحها دون الزوان

وإن جعنا ستطعمنا دماها       فأجملها طيور البليكان

فعقد الطباق بين القمح والزوان؛ وذلك لبيان قدرة الطيور على التمييز بين القمح والزوان؛ لأنها طيور الله.

ثم يا لجمال المقابلة البليغة البديعة في قوله: وإن جعنا ستطعمنا دماها؛ أي الدماء التي تعود على طيور الله .فحقا إن الأشياء الخفية تجعلها أضدادها مرئية على رأي جلال الدين التبريزي.

رابعًا :كثرة الرموز:  ومن هذه الرموز :

  • العنقاء وقد تناولناه
  • السبع المثاني:

قيل إن السبع المثاني هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، أو الأنفال والتوبة، عند من جعلهما في حكم سورة واحدة. وقيل هي آيات سورة الفاتحة والمثاني مفردها مثنى.

  • رخيص الصولجان: رمز يشير إلى الملك كافور.

فأصل الصولجان عصا الملك بدليل قول الشاعر المتوكل في البيت الذي يليه:

أليس الشعر أبقى من عروش             وأجمل من حِلِيٍّ أو غوانِ؟!

مع ملاحظة أن من حق كلمة (غوان) في عجز البيت أن تنوّن، وتنوينها تنوين عوض؛ أي عوضا عن الياء المحذوفة، إذ أصلها : غواني ، لكن الشاعر اكتفى بتخفيف التنوين بالكسرة حفاظا على القافية ، وحق له ذلك.

  • أنصال اليماني :،إشارة إلى سيوف اليمن الحادة.
  • أرزة الفينيق: والأرزة إشارة إلى لبنان، وهي شعار الجمهورية اللبنانية، وفي إضافة الفينيق إلى الأرزة فيه إشارة إلى الحضارة الفينيقية، إذ عرف الأرز في تلك الحضارة (١٣٠٠ق.م - ٣٣٠ق.م) .
  • السبع السمان : وهي رمز تاريخي ترمز إلى البقرات، ولعلها السبع السمان الواردة في سورة يوسف عليه السلام وتفسيره لرؤية ملك مصر.
  • ابن الطيلسان: وهو القاسم بن محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي رحل عن قرطبة بعد أن احتلها الإفرنج.
  • طيور البليكان: هو طير البجع طير مائي ضخم، وقد وردت في النص بصيغة (البيلكان) والصواب البليكان.هذه أمثلة على الرموز التي استدعاها الشاعر المتوكل فأدخلها في لحم قصيدته فجملتها وأكسبتها جلالا ومنحتها دلالات جديدة .

وهكذا ليس في وسع المرء إلا أن يسلم نفسه بالكامل لدفء هذه القصيدة؛ لما فيها من رفعة المعنى وقوة المبنى، وانزياح الدلالات ووجود الصور والتشبيهات والمرموزات والكنايات والاستعارات والمقابلات، فكان يتعين أن تلتقط هذه القصيدة عين الدرس والنقد وتفيها حقها؛ لتحاول الكشف عن مكامنها المتوارية عن سطحها، وتغور في بحور بواطن روائعها، ومواطن بدائعها، وتستنير بلألائها، وتقدرها حق قدرها.

وأيم الله إن الشاعر نظير هذه القصيدة ليستحق كل سلال موسم الثناء.